نزول القراَن منجماً
والحكمة من ذلك
يقول الله تعالى في كتابه : * وقراَناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً *
ويقول أيضاً : * وقال الذين كفروا لولا نُزل عليه القراَن جملة واحدة, كذلك , لنثبت فيه فؤادك ورتلناه ترتيلاً
هناك حكم هامة وكثيرة تتعلق بنزول القراَن منجماً ومنها ما يلي :
أولاً ـ لقد قضت سنة الله في عباده أن يلاقي النبي عليه الصلاة والسلام أذىً كبيراً في قومه من أجل نهوضه بينهم بتبليغ رسالة ربه , وقد لاقى من ذلك أنواع الشدائد التي جعلته بينهم مدة طويلة غريباً لا ناصر له .
ولقد كان لاتصال الوحي به إذ ذاك وتتابع نزول الاَيات عليه تشد من أذره , وتحمله على الصبر والمصابرة , وتعده بالنصر والتأييد في النهاية ـ كان لذلك أبلغ الأثر في مواساته وتخفيف تلك الشدة عنه وإزاحة معاني الغربة والضعف عن نفسه. فمن هذه الاَيات مثلاً قوله تعالى :
*فاصبر على ما يقولون , وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب , ومن الليل فسبحه وأدبار السجود *
ومن ذلك قوله تعالى : * فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين , إنا كفيناك المستهزئين , الذين يجعلون مع الله إلهاً اَخر فسوف يعلمون , ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون , فسبح بحمد ربك وكن مع الساجدين , واعبد ربك حتى يأتيك اليقين *
فلو أن القراَن نزل كله عليه جملة واحدة , لكان لانقطاع الوحي عنه بعد ذلك أثر كبير في استشعاره الوحشة والغربة , ومهما يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي من العزيمة والصبر , فإن لبشريته أيضاً أثراً بيناً في حياته ما دام أنه بشر .
وقد كان لديه صلى الله عليه وسلم من قوة الإيمان بالله ما يكفي لأن يحمله على تبليغ دعوة ربه والجهاد في سبيلها , ولكنه على ذلك لم يكن به غناء عن المواساة والمعونة والتصبير إذ يأتيه كل ذلك من ربه المرة تلو المرة يعيده الى الأمن والانشراح والأنس والرضى.
وهذا المعنى هو ما عبر عنه القراَن بالتثبيت في قوله تعالى : * كذلك لنثبت فيه فؤادك*
ثانياً ـكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب , فليس لديه من الوسائل الكسبية ما يضبط ويحفظ به كل ما ينزل عليه إلا وسيلة التكرار والحفظ . فكان لا بد من نزول الاَيات بتدرج وخلال فترات متقطعة من الزمن حتى يكون السبيل الى حفظه ووعيه أيسر . وعلى الرغم من ذلك فقد كان من عادته عليه الصلاة والسلام إذا نزلت عليه الاَية من القراَن أن يأخذ في تكرارها ويستعجل في محاولة حفظها ويظل يحرك لسانه بها خشية أن تتفلت من حفظه إلى أن نزل عليه قوله تعالى : * لا تحرك به لسانك لتعجل به , إن علينا جمعه وقراَنه *
ثالثاً ـ احتوى القراَن على متن الفقه الإسلامي كله , أي على عامة أحكامه في الجملة سواء ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات المدنية أو الأحوال الشخصية أو العقوبات أو النظم الدستورية والمالية .
وكان العرب قبل الإسلام متفلتين عن كل قيد , لا يخضعون لقانون ولا يرتبطون بأي تنظيم , فكان من العسير عليهم أن ينتقلوا من تلك الحالة في طفرة مفاجئة , إلى التقيد بعامة أحكام الإسلام ونظمه وقوانينه .
فمن اجل ذلك اخذهم القراَن في ذلك بالوسيلة التربوية التي لا بد منها , وهي وسيلة التدرج في نقلهم من حيلة الفوضى والتفلت , الى حياة النظام والتقيد بالمعايير التي لا بد منها في المجتمع الصالح . فنزلت أولاً الاَيات المتعلقة بالعقيدة ودلائلها , حتى إذا اَمن الناس وثابوا الى عقيدة التوحيد , نزلت اَيات الحلال والحرام وعامة الأحكام في مهل وتدرج .
وفي ذلك يروي الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إنما نزل من القراَن سور من المفصل , فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس الى الإسلام نزل الحلال والحرام , ولو نزل أول شيء : لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبداً , ولو نزل : لا تزنوا , لقالوا : لا لا ندع الزنا .
رابعاً ـ اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون عامة أحكامه التي تضمنها كتابه المبين , جواباً عن أسئلة أو حلاً لمشكلات واقعة , حتى تكون أوقع في النفس وألصق بالحياة . وتلك وسيلة تربوية ظاهرة لا تحتاج الى مزيد بيان لها . وإنما سبيل ذلك أن تتدرج هذه الأحكام واَياتها في النزول تنتظر مناسباتها وظروفها .
ولذلك نجد أن الكثير من اَي القراَن إنما نزل جواباً عن سؤال أو حلاً لإشكال , فمن الأول قوله تعالى :
• *ويسألونك عن اليتامى , قل إصلاح لهم خير , وإن تخالطوهم فإخوانكم *
• *يسألونك عن المحيض قل هو أذى , فاعتزلوا النساء في المحيض *
• وقوله جل جلاله * يسألونك عن الأنفال , قل الأنفال لله والرسول *
• ومن الثاني قوله تعالى :
• * ولاتنكحوا المشركات حتى يؤمن , ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم *
• وقوله تعالى : * إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً *
• فقد نزل كل منها حلاً لمشكلة حدثت ,
خامساً ـ اقتضى التدرج بالناس في التشريع أن يوجد ثمة ناسخ ومنسوخ , إذ ُرب حكم كانت المصلحة والرحمة بالناس تقتضي أخذهم به على مراحل , كتحريم الخمر مثلاً فقد اكتفى القراَن في أول الأمر بيان أن أضراره أكثر من فائدته , وذلك في قوله تعالى : * يسألونك عن الخمر والميسر , قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما * حتى إذا استقر في النفوس ذلك, نزلت اَية تنهى الناس عن السكر في أوقات الصلاة , وذلك في قوله * يا أيها الذين اَمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون * وهو كما ترى تحريم جزئي في فترات متقطعة من الزمن . فلما أخذ الناس أنفسهم بذلك واعتادوا الإمتناع عن الخمر في تلك الأوقات , نزلت اَية قاطعة تحرمه تحريماً كلياً . وذلك هو قوله تعالى : * إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون *
وأنت خبير أن كل مرحلة من هذه المراحل السابقة إنما هي نسخ لما قبلها , وتصعيد بالناس إلى طور جديد نحو تكامل التشريع واستقراره .
وهذا لا يتم ــ كما تعلم ــ إلا بنزول القراَن منجماً على فترة طويلة من
والحكمة من ذلك
يقول الله تعالى في كتابه : * وقراَناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً *
ويقول أيضاً : * وقال الذين كفروا لولا نُزل عليه القراَن جملة واحدة, كذلك , لنثبت فيه فؤادك ورتلناه ترتيلاً
هناك حكم هامة وكثيرة تتعلق بنزول القراَن منجماً ومنها ما يلي :
أولاً ـ لقد قضت سنة الله في عباده أن يلاقي النبي عليه الصلاة والسلام أذىً كبيراً في قومه من أجل نهوضه بينهم بتبليغ رسالة ربه , وقد لاقى من ذلك أنواع الشدائد التي جعلته بينهم مدة طويلة غريباً لا ناصر له .
ولقد كان لاتصال الوحي به إذ ذاك وتتابع نزول الاَيات عليه تشد من أذره , وتحمله على الصبر والمصابرة , وتعده بالنصر والتأييد في النهاية ـ كان لذلك أبلغ الأثر في مواساته وتخفيف تلك الشدة عنه وإزاحة معاني الغربة والضعف عن نفسه. فمن هذه الاَيات مثلاً قوله تعالى :
*فاصبر على ما يقولون , وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب , ومن الليل فسبحه وأدبار السجود *
ومن ذلك قوله تعالى : * فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين , إنا كفيناك المستهزئين , الذين يجعلون مع الله إلهاً اَخر فسوف يعلمون , ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون , فسبح بحمد ربك وكن مع الساجدين , واعبد ربك حتى يأتيك اليقين *
فلو أن القراَن نزل كله عليه جملة واحدة , لكان لانقطاع الوحي عنه بعد ذلك أثر كبير في استشعاره الوحشة والغربة , ومهما يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي من العزيمة والصبر , فإن لبشريته أيضاً أثراً بيناً في حياته ما دام أنه بشر .
وقد كان لديه صلى الله عليه وسلم من قوة الإيمان بالله ما يكفي لأن يحمله على تبليغ دعوة ربه والجهاد في سبيلها , ولكنه على ذلك لم يكن به غناء عن المواساة والمعونة والتصبير إذ يأتيه كل ذلك من ربه المرة تلو المرة يعيده الى الأمن والانشراح والأنس والرضى.
وهذا المعنى هو ما عبر عنه القراَن بالتثبيت في قوله تعالى : * كذلك لنثبت فيه فؤادك*
ثانياً ـكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب , فليس لديه من الوسائل الكسبية ما يضبط ويحفظ به كل ما ينزل عليه إلا وسيلة التكرار والحفظ . فكان لا بد من نزول الاَيات بتدرج وخلال فترات متقطعة من الزمن حتى يكون السبيل الى حفظه ووعيه أيسر . وعلى الرغم من ذلك فقد كان من عادته عليه الصلاة والسلام إذا نزلت عليه الاَية من القراَن أن يأخذ في تكرارها ويستعجل في محاولة حفظها ويظل يحرك لسانه بها خشية أن تتفلت من حفظه إلى أن نزل عليه قوله تعالى : * لا تحرك به لسانك لتعجل به , إن علينا جمعه وقراَنه *
ثالثاً ـ احتوى القراَن على متن الفقه الإسلامي كله , أي على عامة أحكامه في الجملة سواء ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات المدنية أو الأحوال الشخصية أو العقوبات أو النظم الدستورية والمالية .
وكان العرب قبل الإسلام متفلتين عن كل قيد , لا يخضعون لقانون ولا يرتبطون بأي تنظيم , فكان من العسير عليهم أن ينتقلوا من تلك الحالة في طفرة مفاجئة , إلى التقيد بعامة أحكام الإسلام ونظمه وقوانينه .
فمن اجل ذلك اخذهم القراَن في ذلك بالوسيلة التربوية التي لا بد منها , وهي وسيلة التدرج في نقلهم من حيلة الفوضى والتفلت , الى حياة النظام والتقيد بالمعايير التي لا بد منها في المجتمع الصالح . فنزلت أولاً الاَيات المتعلقة بالعقيدة ودلائلها , حتى إذا اَمن الناس وثابوا الى عقيدة التوحيد , نزلت اَيات الحلال والحرام وعامة الأحكام في مهل وتدرج .
وفي ذلك يروي الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إنما نزل من القراَن سور من المفصل , فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس الى الإسلام نزل الحلال والحرام , ولو نزل أول شيء : لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبداً , ولو نزل : لا تزنوا , لقالوا : لا لا ندع الزنا .
رابعاً ـ اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون عامة أحكامه التي تضمنها كتابه المبين , جواباً عن أسئلة أو حلاً لمشكلات واقعة , حتى تكون أوقع في النفس وألصق بالحياة . وتلك وسيلة تربوية ظاهرة لا تحتاج الى مزيد بيان لها . وإنما سبيل ذلك أن تتدرج هذه الأحكام واَياتها في النزول تنتظر مناسباتها وظروفها .
ولذلك نجد أن الكثير من اَي القراَن إنما نزل جواباً عن سؤال أو حلاً لإشكال , فمن الأول قوله تعالى :
• *ويسألونك عن اليتامى , قل إصلاح لهم خير , وإن تخالطوهم فإخوانكم *
• *يسألونك عن المحيض قل هو أذى , فاعتزلوا النساء في المحيض *
• وقوله جل جلاله * يسألونك عن الأنفال , قل الأنفال لله والرسول *
• ومن الثاني قوله تعالى :
• * ولاتنكحوا المشركات حتى يؤمن , ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم *
• وقوله تعالى : * إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً *
• فقد نزل كل منها حلاً لمشكلة حدثت ,
خامساً ـ اقتضى التدرج بالناس في التشريع أن يوجد ثمة ناسخ ومنسوخ , إذ ُرب حكم كانت المصلحة والرحمة بالناس تقتضي أخذهم به على مراحل , كتحريم الخمر مثلاً فقد اكتفى القراَن في أول الأمر بيان أن أضراره أكثر من فائدته , وذلك في قوله تعالى : * يسألونك عن الخمر والميسر , قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما * حتى إذا استقر في النفوس ذلك, نزلت اَية تنهى الناس عن السكر في أوقات الصلاة , وذلك في قوله * يا أيها الذين اَمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون * وهو كما ترى تحريم جزئي في فترات متقطعة من الزمن . فلما أخذ الناس أنفسهم بذلك واعتادوا الإمتناع عن الخمر في تلك الأوقات , نزلت اَية قاطعة تحرمه تحريماً كلياً . وذلك هو قوله تعالى : * إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون *
وأنت خبير أن كل مرحلة من هذه المراحل السابقة إنما هي نسخ لما قبلها , وتصعيد بالناس إلى طور جديد نحو تكامل التشريع واستقراره .
وهذا لا يتم ــ كما تعلم ــ إلا بنزول القراَن منجماً على فترة طويلة من